يحل الخريف بأطيافه الدافئة ضيفاً مميزاً كل عام وتعود معه البدايات الجديدة. يتطلع فيه الأطفال لصفوفهم العليا، ويأمل الكبار أن يكونوا أكثر نشاطاً في أعمالهم بعد عطلةٍ مريحة.
عودةُ الخريف في فرنسا لا تقتصر على المدارس ولا على الأعمال، لكنها عودةٌ تُنبىء بمهرجانٍ ثقافيٍ ضخم يجتاح البلد لموسمٍ كامل. في شهري سبتمبر وأكتوبر تحلُّ (العودة الأدبية La Rentrée Littéraire) وتمطر المكتبات المئات من الكتب الجديدة وتتسابق المدن في تقديم مهرجاناتها واستقبال الكتَّاب المتحمسين لتقديم أعمالهم لقراء متعطشين. عودةٌ أدبيةٌ تنتقل حُمَّاها لتصبح هي الحدث الأهم في نشرات الأخبار وتحتل أبرز عناوين الصحف.
حصادُ هذا العام في المشهد الثقافي الفرنسي ٤٦٦ كتاباً: ٣٢١ منها ينتمي لصنف الرواية، ١٤٥ منها كتبٌ مترجمة، و٧٤ منها هي أولى أعمال كُتَّابها. يعتبر هذا العدد الكبير خيبةً للوسط الأدبي الفرنسي الذي اعتاد على إصدارات أكثر عبر السنين، إلا أن الغالبية اتفقوا على أنها عودةٌ أدبيةٌ رفيعةٌ لعمق الكتب التي تم طرحها.
يرافق كل عودةٍ أدبيةٍ ظهور روتيني لبعض الكتاب الذين يتركون القراء منقسمين ما بين متلهفٍ ومتذمر، ومع كل عودةٍ ترقبٌ لمن سيسرقون الأضواء لهذا العام ويصطفون على لائحة المرشحين لجوائز فرنسا الأدبية الأهم وفي مقدمتها الجونكور ورونودو.
من لحظاتِ الحياة الجميلة أن تحتار في اختيار أي كتابٍ ستقرأ، خاصةً عندما تكون أمام كتبٍ تتشوق لقرائتها جميعاً في آنٍ معاً! أما حيرتي هنا، فهي في اختيار أي كتبٍ من هذا الموسم لأحدثك عنها؟!
اخترت لك ثلاثةً منها، لعلها تخاطب فيك حماس القارىء.
أن تفرد قلمك وتطير
أصبحت الكاتبة البلجيكية أميلي نوتومب سيدةَ الخريف بلا منازع! تتجاذبها الأضواء والمقابلات ومنَّصات التوقيع، وتطل فيه كل عام بنفس الطقوس الخاصةِ بها: الهندام الأسود، والشفتان المطليتان بالأحمر القاني وكأس الشامبانيا الذي لا يفارقها. هذه الصورة التي قد يراها البعض بهرجةً إعلامية، تُعطي انطباعاً خادعاً عن هذه الكاتبة الكبيرة. عاشت أميلي طفولةً غنيةً بين بلدان عديدة بحكم عمل والدها الديبلوماسي، حيث انتقلت بالعيش بين اليابان، والصين، ولاوس، وبنغلاديش، وبورما، والولايات المتحدة الأميركية، والقارىء لأعمالها يتلمس انعكاس هذه الثقافات على تكوينها. في كتابها الأخير (بسيكوبومب Psychopompe - أو مرشد الروح) تكشف أميلي أخيراً عن جزءٍ أساسي في تكوينها كإنسانة وككاتبة، ابتداءً بعنوان كتابها اللافت والذي يشير معناه إلى المرشد الروحي الذي تطرقت له معظم الأديان والأساطير، فهو عند الإغريق هيرميس الذي يقود بجناحيه روح المتوفى إلى هاديس حارس العالم الآخر، وهو أنوبيس إله الموت لدى مصر الفرعونية، وهو الإله زولوت لدى حضارة الأزتيك في المكسيك، وهو كذلك الإله ياما في الحضارة الهندوسية القديمة، ويعرف أيضاً في اليابان بشينيغامي، وفي الديانة المسيحية يشار إليه بالملاك ميخائيل وبالقديس بطرس، كما تشير الإسرائيليات لعزرائيل، وُيشار إليه بملك الموت في الإسلام. يُرمز لهذا الرفيق الروحي غالباً بكائن له القدرة على الخلاص، عدواً كالخيل أو تحليقاً كالطيور. لم تتخذ أميلي هذه الصورة اعتباطاً، فهي تصور الكتابة بالمخلص من تبعات لحظة جحيمٍ عاشتها عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها عندما تعرضت لاغتصاب جماعي على شاطيء البحر في بنغلاديش. هذه اللحظات العصيبة حورتها لطفلة فاقدة للشهية وللحياة، والتي وجدت في التهام الكتب وفي الكتابة مخلصاً من الموت الذي اقتربت منه.
في إحدى اللقاءات الأدبية، بعد أكثر من ساعة من الانتظار في صف القراء، كنت آخر من حالفهم الحظ بلقاء أميلي هذا العام. قبل أن يحين دوري، رأيتها تُبادل العناق والأحاديث المؤثرة مع الكثيرين، في صورةٍ نادرة لم ألحظ مثلها بين الكتاب وقرائهم. سَأَلتْ أميلي في كل مرة من يتقدم إليها عن حاله وعن أي طيرٍ يكون؟ حضرت نفسي بحماس لأن أجاوبها: طائر الطنان! سمه ماشئت: تلعثم، ارتباك، خجل… فلا شيء مما خططت له قد حصل! اختتمت أميلي يومها بشكل مختلف سائلةً عن اسمي وليس عن أي طير أكون. رحبتُ بها وجاوبتها، فقالت: سارة الأميرة، ما أجمل هذا الاسم. رأت أميلي امتعاضي من الكلمة وقالت: مالذي ينقصكِ لتكوني أميرة يا سارة؟ فقلت لها: لا أريدُ أن أكون أميرة! ضحكنا بعفوية وقالت لي: هذه أول مرة أرى فيها أميرة ديموقراطية! وهكذا كتبت في إهدائها. كان المساءُ قد حل، والجميع شارف على الانصراف بعد يومٍ حافلٍ من اللقاءات. تركتُ تلك القاعة الواسعة وفي داخلي شعورٌ إنساني عارم بأنني قابلت أميلي الطفلة التي تبحثُ عن الحب والاحتواء عبر قُرائها وتُعطيه لهم في الوقت نفسه.
لتفهم الكبار، فتش عن طفولتهم
في لقاءٍ آخر، جلس الكاتب الفرنسي سورج شالاندون وقلَّب بإصبعيه قطعة من النقود على الطاولة وسط سكون الحاضرين. ”هل سمعتم هذا الصوت؟.. هذه القطعة النقدية تساوي ٢٠ فرنكاً وهي قيمة مكافأة العثور على صبي عصا سجانيه وتجرأ على الهروب!“. يحكي شالاندون في كتابه الجديد (الساخط L’Enragé) قصةً تجمع بين تجربته الشخصية كطفل مُعنَّف من قبل والده وبين قصةٍ حقيقة جرت أحداثها في عام ١٩٣٤م حين هرب ستة وخمسون صبيةً من مستوطنة عقاب للقاصرين في جزيرة (بيل-إيل-أون-مير Belle-Île-en-Mer)، حيث تم القبض عليهم، فيما عدا صبي واحد، هو بطل هذه الحكاية المأساوية.
جزيرة بيل-إيل والتي تعني حرفياً (الجزيرة الجميلة) هي إحدى الأماكن السياحية الأشهر في فرنسا والتي تلقى إقبالاً كبيراً لطيب العيش فيها ولطبيعتها الساحرة. تأتي هذه القصة كمفارقة بين جمال وهدوء الجزيرة وبين التاريخ المؤلم الذي لا تزال آثاره شاهدةً على المكان ويمكن رؤيتها حالما تطؤها أقدامنا. نال سورج شالاندون جائزة ألبير لوندر - أرفع جائزة صحافية فرنسية - ويعد من كبار مراسلي الحروب الذين شهدوا العديد من المآسي، ومنها مجزرة صبرا وشاتيلا التي خصص لها كتابه (الجدار الرابع)، ويُذكِّر دوماً في حواراته بضميره كصحافي قبل أن يكون كاتباً. يُسلط سورج الضوء على تاريخ هذه المستعمرات الدارج وجودها حينذاك في العديد من المناطق الفرنسية، وكيف زُج بداخلها صبيان فقراء، مشردين ويتامى حتى لا ”يلوث“ وجودهم شوارع البلاد، وكأن التخلص من ظهورهم العلني سيمحي وجودهم المزعج للبعض. يروي الكاتب يومياتهم وكيف تم حرمانهم من التعليم واستبداله بالأعمال الشاقة ويحكي حدثاً هاماً وهو ثورة وهروب هؤلاء الصبية بعد لحظة غضبٍ عارمة أصابتهم حين تجرأ أحد الأطفال على تناول قطعة من الجبن بعفوية قبل أن يتناول طبقه الرئيسي، قالباً بذلك ترتيب الأطباق التي يجب تناولها، حيث تأتي الأجبان في آخرها، فيتعرض بسبب ذلك للضرب المبرح من قبل المشرفين. هرب الصبية جميعاً خارج تلك القلعة واستنشقوا رائحة العشب والطين المبلل التي نسوها منذ زمن. تم القبض عليهم جميعاً حين أُعلن عن مكافئةٍ قدرها ٢٠ فرنكاً لكل صبي، إلا أن صبياً واحداً منهم نجا بحياته وهو بطل هذه الحكاية. هذا الصبي الذي يرى سورج شالاندون نفسه فيه حين كان صغيراً ومعنفاً، سيرافقنا عبر صفحات كتاب يصعب أخذ استراحة منه.
حتى لا تمحو أمواج الحياة ذاكرة الأجيال
تستفتح ناتاشا أبانا روايتها (الذاكرة الباهتة La mémoire délavée) بصورة جميلة لأسراب الزرازير وهي ترقص في السماء مع بداية الخريف، مذكرةً إياها بحكاية أسلافها الذين هاجروا من موطنهم الأصلي في الهند للعمل في حقول القصب في جزيرة موريشيوس. لطالما أثارت هذه الصورة التساؤلات لديها: من القائد في هذا السرب؟ ومن يتخذ القرار في الطيران لهذا الاتجاه أو ذاك؟ ولماذا يتبع الآخرون هذه القرارات بكل ثقة وكأن بينهم لغةً سرية؟
تروي أبانا مصائر من سُموا بال (كولي Coolies) وهم في الأصل من جنسيات آسيوية متفرقة - أتى أغلبيتهم من الصين والهند - وتم ترحيلهم إلى دول مختلفة مثل: موريشيوس، لا ريونيون، جنوب أفريقيا، الولايات المتحدة الأميركية، كوبا، البيرو، جزر الأنتيل، وجزر فيجي مابين ١٨٣٠م - ١٩١٧م عقب إلغاء تجارة الرق واستبدال السود المحررين بهم، وكأن التاريخ يكرر نفسه ولكن بمسمياتٍ أخرى. الظروف القاسية والمذلة لهؤلاء العمال لم تتغير، كما لم تتغير طريقة التعامل الجافة معهم ولا النظرة الدونية لهم. تصف الكاتبة كيف أن معظمهم لم يكونوا على علم بوجهة سفرهم، وأن أغلبهم كان يمضي شهوراً على متن السفن مابين الأمل بمستقبلٍ أفضل والخوف من المجهول. فور وصول جدها لموريشيوس، أُعطي رقماً عوضاً عن اسمه. رقمٌ ظاهرٌ أسفل صورته الشخصية، والتي تتوقف ناتاشا عندها طويلاً. قسمات وجهه المتعبة بعد سفرٍ مضنٍ، والصدمة الظاهرة في عينيه من اكتشاف الواقع المرير عند الوصول. تحارب ناتاشا أبانا في هذه السيرة الممتدة من جيل جدها، فوالدها، وصولاً لجيلها آثار النسيان التي تطرأ شيئاً فشيئاً على الذاكرة، مخلدة عبر قلمها قصصاً مؤثرةً لا تُنسى.
شكراً لقراءتك وشكراً على وقتك.
سارة، مقالتك أثرتني كثيراً! المشهد الثقافي الحالي في فرنسا و الإصدارات الجديدة و ردة الفعل الثقافية تجاه الإصدارات و النشر هناك.
اختياراتك للكتب اعجبني، شكراً لك!
سأبحث عن ترجمتها و ألتهمها ثم سأوافيك برأيي فيها!
لقائك مع الكاتبة كان مميزاً، و انا اوافقها الرأي، لم لا تكونين أميرة 😄؟
مقالة بديعة و شيقة، و في انتظار المزيد من هذه المقالات التي تزيد قائمة الكتب التي انوي قرائتها، و هي بالمناسبة قائمة اطول من سور الصين العظيم!!
مع خالص محبتي
بثينة اليوسف